للخريف في باريس هذه القدرة على إيقاظ كافة حواسك.. يخلق منك دوامة ويرميك فيها، مع أوراق الشجر المتساقطة.. فتطفو في العدم، غير آبه للكآبة المقبلة.. مستسلماً أمام هذه الطبيعة التي تتعرّى بأنوثة ليليت، وقسوتها...
تتشقلب مشاعرك كالبهلوان، تارة تريد القفز من أعلى الجبال من شدة النشوة.. وتارة من شدة اليأس.. تحديداً كما تتشقلب المشاهد حولك من كافة مشتقات الأصفر والأرجواني، إلى كافة مشتقات الرمادي.. الرمادي فقط، حتى الأبنية رمادي، وجوه الناس رمادية.. وأنت نفسك، كقط الجار الرمادي، لا تنشد سوى الجلوس على كنبتك أمام النافذة تنظر إلى التلاميذ يجرّون أنفسهم جرّا إلى المدارس.. الموظفون متلحفون.. مشهد مثير من شدة التناقض بين الطبيعة التي تخلد إلى النوم، وأنت وجنسك تحاولون عبثاً أن تواصلوا الحياة.. كم كانت لتكون الحياة أجمل لو كنّا دببة.. شتاء كامل من النوم.. لا ثلج ولا برد ولا سماوات ملبّدة..
لم أؤمن يوماً أن الإنسان هو أذكى المخلوقات.. أذكاها اليوم هي الطيور المهاجرة.. تهرب في الوقت المناسب من هذا الجنون الذي يجرّك نحو اللا شيء.. نحو اللحظات التي تتوقف دهراً، نحو العبث، شعورك بأن أيامك تمضي عبثاً، أن وجودك أة عدمه لا يعلو أهمية عن تلك الورقة التي تتطاير أمامك.. نحو الصراخ، الصراخ كي تكسر هذا السكون.. فالخريف كالأفلام الصامتة.. ربما لأنك قابع خلف النافذة.. وربما لأن هيبة الموت تفرض سكوناً لا تقوى على كسره.
للخريف هذه القدرة على جعلك تدرك أنها النهاية، لكنّك تفتن بها، أنت الذي دائماً تخشى النهايات.. تقبل نحوها.. وبكامل الخنوع وبكامل التلاشي... تقفز في العدم...
No comments:
Post a Comment