صدى الانتفاضة ووعد التغيير - بقلم سمير قصير
في الذكرى السنوية الرابعة لاستشهاد سمير قصير، تعيد "النهار" نشر مقال له صدر في 20/5/2005، قبل 12 يوما من اغتياله، وذلك في الركن الذي كان ركنه.
يحار المرء ما هو الاسوأ: ان يختلف اطراف المعارضة حول تشكيل لوائح المرشحين، ام ان يتوافقوا في ما بينهم فيلغوا مبدأ الانتخاب؟ ولا ما هو الاقل ضررا للمستقبل: ان يُترك مكان على هذه اللوائح المعارضة للقوى المعترضة على التقاسم الجاري بين زعماء الطوائف، ام ان يُحكم عليها بالعمل خارج الاطار البرلماني؟
الحيرة هي على صورة الوضع الذي رسا عليه لبنان موقتا مع انتهاء عصر الوصاية السورية من دون ان يكتمل تفكيك التركيبة السياسية التي انتجتها الوصاية، كما يستدل من الدور المحوري الذي لا يزال يؤديه السيد نبيه بري الى الآن، وقد يستمر في تأديته بعد هذه الانتخابات الغريبة العجيبة التي تطل علينا. ولعل ابلغ المفارقات في مرحلة ما بعد الوصاية، ان تكون هذه الانتخابات التي طال انتظارها، والتي يجب ان تحصل في موعدها، من النوع الذي يفضل نسيانه في اسرع وقت، وان يكن المجال لا يزال مفتوحا لبعض المعارك الكبيرة الرمزية، في الجنوب والشوف والشمال.
ولا ريب ان هذه الحيرة التي يزكيها تكاثر الانتخابات بالتزكية، هي ما يغذي الشعور العام بالاحباط الذي يلف الرأي العام، ويصل احيانا الى حد القرف. الا ان الموضوعية تفترض الاقرار بان الاحباط ليس مبررا بالكامل. ليس فقط لان العديد من المحبطين يريدون الشيء وعكسه، مثلا "صحة التمثيل المسيحي" و"الخلاص من الطائفية"، بل لان الاحباط في معظمه ينتج من تحوير بالمفعول الرجعي لمعاني الحركة الاستقلالية.
فاذا كان من الخطأ اعتبار انتفاضة الاستقلال استكمالاً لفصول الحرب، كما تفعل بعض اطراف المعارضة، وخصوصا في الجانب المسيحي منها، فان من الخطأ ايضا اعتبارها حركة سياسية ذات برنامج واحد، كما يطيب الاعتقاد لعدد من الشباب المنخرطين فيها. صحيح ان هذه الانتفاضة اخذت حجم ثورة سلمية ضخمة، وان الزخم الذي تميزت به، وخصوصا يوم 14 آذار، يدفع الى استهجان التصرف الفوقي لقيادات المعارضة (ولا افضلية لأحد على الآخر في هذا المجال). الا انه في المقابل لا يمكن تحميل الحدث ما لم يحمله. فالناس لم تنزل الى الشارع في شهري شباط وآذار من اجل التغيير، بل من اجل التخلص من هيمنة الحكم السوري على لبنان والنظام الامني الذي ارتكزت عليه هذه الهيمنة.
الا ان هذا لم يمنع كثيرين ممن شاركوا في الانتفاضة، من ان يحلموا باكثر من ذلك، ولا سيما بعدما لمسوا زخم التعبئة الشعبية من جهة، وطابع المصالحة الوطنية الذي انطوت عليه من جهة اخرى. ولكن هل كان ثمة حلم واحد يجمعهم؟
وحتى اذا افترضنا ان الكل اجمعوا على التغيير والاصلاح، فمن الواضح انهم لم يجمعوا على محتوى التغيير والاصلاح. ينطبق ذلك على قانون الانتخاب تحديدا، على ما بدا من سجال في هذا الموضوع ومن استعداد اجزاء من الرأي العام الخوض فيه، وإن من دون إلمام به. هكذا، تمت احاطة العودة الى قانون 1960 بهالة من القدسية قد تكون مبررة بالسمعة السيئة للقوانين التي عُمل بها بعد الطائف، بما فيها قانون الالفين، لكنها بالتأكيد غير مستحقة. ففي مقابل استيفاء قانون 1960 شرط التمثيلية، مقارنة بقانون الالفين، يبقى بعيدا كل البعد عن الاصلاح السياسي المطلوب، مثلما دلت تجربة لبنان قبل الحرب. كذلك ينطبق هذا الانفصام بين الدعوة المجردة الى الاصلاح والموقف السياسي الآني، على مقاربة التحالفات الانتخابية. فاذا اخذنا ما حصل في نهاية الاسبوع الماضي، سنجد من يرى في ضم السيدة صولانج الجميل الى لائحة الحريري والسيد جورج عدوان الى لائحة وليد جنبلاط تجليا لروح المصالحة المتمثل بـ14 آذار، مثلما سنجد من يرى في ذلك خيانة للوعد بلبنان جديد الذي حمله 14 آذار اياه، وخصوصا ان نتيجة هذه التحالفات تصب في خانة تعليب الانتخابات.
قطعا، يحق للناخبين التوق الى شيء افضل من هذه الانتخابات المعلبة بتوافق اقطاب المعارضة، والمرشحة الى مزيد من التعليب اذا انتهى التوافق الى شمل العماد عون ومرشحيه. لكن هذا التوق لن يترجم واقعا، الا اذا لازمه التزام مزدوج يعبر عنه في عملية الاقتراع، ثم بعد انتهاء الانتخابات. وهذا يعني اولا التزام جانب الرفض لمبدأ التعليب، اذا لم تمنعه التزكيات، من خلال اختيار المرشحين الذين يجمعون في شخصهم صدى انتفاضة المستقبل ووعد التغيير، سواء كانوا على اللائحة الرسمية للمعارضة او على لائحة اخرى، او فضلوا الترشح منفردين، بما يستتبع ذلك من رفض للصفقات مع رموز عهد الوصاية. ويعني ثانيا التزاما بالانخراط في معارك التغيير التي سوف تلي الانتخابات، وفي مقدمها المعركة التي يجب ان تفتح في 20 حزيران، غداة الانتهاء من الجولة الاخيرة في الشمال، من اجل قانون انتخاب عصري وعادل يمنع المحادل، الى اي طرف انتمت.
وهنا يكمن الوفاء الحقيقي لحدث 14 آذار: في اعتباره نقطة البداية لعمل سياسي قد يتطلب وقتا مديدا كي يثمر، مثلما تطلب انهاء عهد الوصاية نضالات طويلة وتضحيات كبيرة لم تختصر بالنزول الى ساحة الشهداء ذات يوم من ايام شباط وآذار. وفي الاتعاظ منه بان السياسة ليست حكرا على السياسيين، مهما حاولوا احتكارها، وان الاصلاح لن يبنيه الا من لهم مصلحة فيه. اما التبرم والاحباط والقنوط، فتلك هي تحديدا العادات التي لم يعد لها مكان منذ 14 آذار.
20/ 5/ 2009
No comments:
Post a Comment